كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع فلهذا السبب سموه بأذن وقوله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أذن خير لكم} تصديق لهم بأنه أذن لكن لا على الوجه الذي ذموه به بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله ثم فسر تعالى ذلك بقوله تعالى: {يؤمن بالله} أي: يصدّق به لما قام عنده من الأدلة {ويؤمن للمؤمنين} أي: ويصدّقهم ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين.
فإن قيل: لم عدى فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى وإلى المؤمنين باللام أجيب: بأنّ الإيمان المعدى إلى الله تعالى المراد التصديق الذي هو نقيض الكفر، فعدي بالباء، والإيمان المعدي للمؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللام كما في قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} وقوله تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} وقوله تعالى: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} وقوله: {آمنتم له قبل أن آذن لكم}.
وقرأ نافع: أذن في الموضعين بتسكين الذال، والباقون بالرفع {ورحمة} أي: وهو رحمة {للذين آمنوا منكم} أي: لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سرّه وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلًا بحالكم بل رفقًا بكم وترحمًا عليكم وقرأ حمزة ورحمة بالجرّ عطفًا على خير، والباقون بالرفع، ولما بين سبحانه وتعالى كونه سببًا للخير بين أنّ كل من آذاه استوجب العذاب الأليم بقوله تعالى: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} أي: مؤلم لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ثم أنهم مع ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى ثم ذكر نوعًا آخر من قبائح أفعال المنافقين بقوله تعالى: {يحلفون بالله لكم} أيها المؤمنون {ليرضوكم} أي: لترضوا عنهم واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل والكلبي: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا يعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم.
وقال قتادة والسدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد ووديعة بن ثابت فوقعوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقًا فنحن أشر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له: عامر بن قيس فحقروه وقالوا هذه المقالة فغضب الغلام وقال والله ما يقول محمد حق وأنتم أشر من الحمير ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أنّ عامرًا كذب وحلف عامر أنهم كذبة فصدّقهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل عامر يدعو اللهمّ صدق الصادق وكذب الكاذب فنزلت {والله ورسوله أحق أن يرضوه} أي: بالإرضاء بالطاعة والوفاق وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم لتلازمهما كقولك: إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني أو أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله تعالى ولهذا السبب خص الله تعالى نفسه بالذكر أو لأنّ الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه أو خبر الله أو رسوله محذوف وفي كلام البيضاوي إشارة إلى أن المذكور خبر الأوّل لأنه المتبوع وفي كلام سيبويه أنه للثاني لكونه أقرب مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر {إن كانوا} أي: هؤلاء المنافقون {مؤمنين} أي: مصدّقين بوعد الله ووعيده في الآخرة.
{ألم يعلموا} قال أهل المعاني: هذا خطاب لمن علم شيئًا ثم نسيه وتركه فيقال له: ألم تعلم أنه كان كذا وكذا ولما طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله تعالى: {ألم يعلموا} أنّ من شرائع الدين التي علمهم رسولنا {أنه} أي: الشأن {من يحادد الله} أي: من يخالف الله: {ورسوله} وأصل المحادّة في اللغة المخالفة والمجانبة والمعاداة واشتقاقه من الحدّ يقال: حادّ فلان فلانًا أي: صار في حدّ غير حدّه، كقولك شاقه أي: صار في شق غير شقه، ومعنى {يحادد الله} أي: يصير في حدّ غير حدّ أولياء الله تعالى بالمخالفة وقوله تعالى: {فأنّ له نار جهنم} أي: على حذف الخبر أي: فحق أنّ له نار جهنم لأنّ الفاء واقعة في جواب الشرط فتقتضي جملة و{فأنّ له نار جهنم} مفرد في موضع رفع بالابتداء وقدر خبره مقدمًا لأنّ أنّ لا يبتدأ بها قال الرازي أو أنّ معناه فله نار جهنم وأنّ تكررت للتوكيد واعترض بأنّ فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي ثم قال أو جواب من محذوف والتقدير ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأنّ له نار جهنم {خالدًا فيها} أي: دائمًا من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة أبدًا، ثم نبه على عظم هذا الجزاء بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر البعيد الوصف العظيم الشأن {الخزي العظيم} أي: الهلاك الدائم.
{يحذر} أي: يخاف {المنافقون أن تنزل عليهم} أي: المؤمنين {سورة تنبئهم} أي: تخبرهم {بما في قلوبهم} أي: بما في قلوب المنافقين من النفاق والحسد والعداوة للمؤمنين كانوا يقولون فيما بينهم ويستهزؤن ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم قال قتادة: هذه السورة كانت تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة أثارت مخازيهم ومثالبهم، قال ابن عباس: أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلًا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضًا لأنّ أولادهم كانوا مؤمنين {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {استهزؤا} أمر تهديد {إنّ الله مخرج} أي: مظهر {ما تحذرون} إخراجه من نفاقكم، قال ابن كيسان: نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلًا من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدّروا وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم وعمار بن ياسر يقود ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم فضربها حذيفة حتى نحاها عن الطريق فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم قال: لم أعرف منهم أحدًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم فلان وفلان حتى عدهم كلهم»، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال: أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله.
{ولئن} اللام لام القسم {سألتهم} أي: المنافقين عن استهزائهم بك والقرآن وهم سائرون معك إلى تبوك {ليقولنّ} معتذرين {إنما كنا نخوض ونلعب} في الحديث لنقطع به الطريق ولم نقصد ذلك، قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان يستهزئان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن والثالث يضحك قيل: كانوا يقولون: إنّ محمدًا يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك وقيل: كانوا يقولون: إنّ محمدًا يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن وإنما هو قوله وكلامه فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: «احبسوا الركب عليّ فدعاهم وقال لهم: قلتم كذا وكذا» فقال: {إنما كنا نخوض ونلعب} أي: كنا نتحدّث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لنقطع الطريق بالحديث واللعب قال الله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أبالله} أي: بفرائضه وحدوده وأحكامه {وآياته} أي: القرآن وسائر ما يدل على الدين الذي لا يمكن تبديله ولا يخفى على بصير ولا بصيرة {ورسوله} محمد صلى الله عليه وسلم الذي عظمته من عظمته وهو مجتهد في إصلاحكم وتشريفكم وإعلائكم {كنتم تستهزؤن} توبيخًا وتقريعًا لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به وإلزامًا للحجة عليهم ولا يعبأ باعتقادهم الكاذب، ولما كان الاستهزاء بذلك كفرًا قال الله تعالى: {لا تعتذروا} أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الباطلة {قد كفرتم} أي: أظهرتم الكفر بقولكم هذا {بعد إيمانكم} أي: بعد إظهار الإيمان.
فإن قيل: المنافقون لم يكونوا مؤمنين فكيف قال تعالى: {قد كفرتم بعد إيمانكم}؟
أجيب: بأنهم كانوا يكتمون الكفر ويظهرون الإيمان فلما حصل ذلك الاستهزاء منهم وهو كفر فقد أظهروا الكفر بعدما أظهروا الإيمان كما تقرّر {إن نعف عن طائفة منكم} أي: بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق {نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} أي: مصرين على النفاق والاستهزاء قال محمد بن إسحاق: الذي عفا الله عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض وكان يمشي مجانبًا لهم وكان ينكر بعض ما يسمع والعرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول خرج فلان إلى مكة على الجمال والله تعالى يقول: {الذين قال لهم الناس}.
يعني: نعيم بن مسعود فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهمّ إني لا أزال أسمع آية تقرأ تقشعر منها الجلود وتخفق منها القلوب اللهمّ اجعل وفاتي قتلًا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه وقرأ عاصم نعف بالنون مفتوحة وضم الفاء ونعذب طائفة بنون مضمومة وكسر الذال وطائفة بالنصب والباقون إن يعف بياء مضمومة وتعذب بضم التاء وفتح الذال وطائلة بالرفع ثم بين تعالى نوعًا آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم والمقصود منه بيان أنّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة بقوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضم من بعض} أي: متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان كإبعاض الشيء الواحد كما يقول الإنسان لغيره أنا منك وأنت مني أي: أمرنا واحد لا مباينة فيه {يأمرون بالمنكر} أي: يأمر بعضهم بعضًا بالشرك والمعصية وتكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم {وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم} أي: عن الإنفاق في كل خير من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله، والأصل في هذا أنّ المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده فقبض اليد كناية عن الشح وقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملنا النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذمًا لأن النسيان ليس في وسع البشر ولخبر: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأيضًا فهو في حق الله تعالى محال فلابد من التأويل وهو من وجهين: الأوّل: معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وجاء هذا على مزاوجة الكلام كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}
الثاني: النسيان ضدّ الذكر فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله ترك الله تعالى ذكرهم بالرحمة والإحسان وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأنّ من نسي شيئًا لم يذكره فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم {إنّ المنافقين هم الفاسقون} أي: الكاملون في الفسق الذي هو التمرّد في الكفر والانسلاخ عن كل خير وكفى المسلم زاجرًا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله تعالى به المنافقين حتى بالغ في ذمهم وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كرهت كسلت لأنّ المنافقين وصفوا بالكسل في قوله تعالى: {إلا وهم كسالى فما ظنك بالفسق}، ولما بين سبحانه وتعالى كثيرًا من أحوال المنافقين والمنافقات وأنه نسيهم أي: جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله تعالى أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه بقوله تعالى: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار} أي: المجاهرين في عنادهم يقال وعده بالخير وعدا وأوعده بالشر وعيدًا {نار جهنم خالدين فيها} أي: مقدرين الخلود ولا شك أنّ النار المخلدة من أعظم العقوبات {هي حسبهم} أي: كافيتهم في العذاب {ولعنهم الله} أي: أبعدهم مع من أبعدهم من رحمته، ولما كان الخلود قد يتجوّز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج نفى ذلك بقوله تعالى: {ولهم عذاب مقيم} أي: دائم لا ينقطع وقوله تعالى: {كالذين من قبلكم} رجوع من الغيبة إلى خطاب الحضور والكاف في كالذين للتشبيه والمعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم شبه فعل المنافقين بفعل الكافرين الذين كانوا من قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن فعل الخير والطاعة ثم إنه تعالى وصف الكفار بأنهم كانوا أشدّ من هؤلاء المنافقين قوّة وأكثر أموالًا وأولادًا بقوله تعالى: {كانوا أشدّ منكم قوّة} أي: بطشًا ومنعًا {وأكثر أموالًا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم} أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا بها عوضًا عن الآخرة والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان وقدّر له من خير وشر كما يقال: قسم له.
{فاستمتعتم بخلاقكم} أي: فتمتعتم أيها المنافقون والكافرون بخلاقكم فهو خطاب للحاضرين {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} ذم الأوّلين باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا العاجلة وحرمانهم من سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة تمهيدًا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم، ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدّمين في طلب الدنيا وفي الإعراض عن طلب الآخرة بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة بقوله تعالى: {وخضتم} أي: ودخلتم في الباطل والكذب على الله تعالى وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين {كالذي خاضوا} أي: كالذين خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا هذا كله إذا جعلنا الذي موصولًا اسميًا فإن جعلناه موصولًا حرفيًا أول مع صلته بمصدر أي كخوضهم والفوج الجماعة.